page_0007

OverviewTranscribeVersionsHelp

Facsimile

Transcription

Status: Complete

(البلاغ الأسبوعي في يوم الجمعة ٧ يناير ١٩٢٧) ٧

بجهودها الجمعية أنى أرادت. وما قال القائلون:
إن الدولة هي كل شيء في المجتمع، بل إنها هي
التي أنشأت المجتمع، إلا لما رأوا تغلغل سلطتها
في الجهود الاجتماعية وعلى الخصوص في الأزمان
الغابرة حيث كان للدولة قوة غير محدودة في كل
شيء. بل كانت كل جهود الجماعة مستغرقة
في الدولة. وقد ساعد على تدعيم هذا الفكر
نشوء الدولة التاريخي والتقلبات التي مرت بها
واعتمادها على القوة المادية في كل ما تم بواسطتها
في المجتمع. وقد أظهرت الأبحاث الاجتماعية
الحديثة خطأ هذه الفكرة وأبانت أن الدولة
مظهر من مظاهر جهود الجماعة والنظام كبقية
الأنظمة الاجتماعية. وليس بصحيح إذا قول
أرسطو أن الإنسان مدني بالطبع بل الواقع
أن الإنسان اجتماعي بالطبع قبل كل شيء.
وقد أراد كتاب القرن الثامن عشر
السياسيون ومن نحا نحوهم أن يصوروا نشوء
الهيئة الاجتماعية تصويراً يتناسب مع آرائهم
عن الحرية الإنسانية فأدخلوا عنصراً جديداً
في الأبحاث الاجتماعية عن أصل المجتمع وقالوا
إن الإرادة الاجتماعية هي أصل في كل صور
الحياة الاجتماعية، وأنه ما تم ولا يتم بناء أي
مجتمع ولا أي نظام من النظم دون رأي
أفراد المجتمع، وإن كل الهيئات الاجتماعية
وليدة الإرادة الإنسانية، وقد أخذ ذلك في
بدء التاريخ صورة إجماع بين كل الأفراد دعاه
روسو "العقد الاجتماعي". بيد أننا نعلم أنه
لا يتم شيء في الجماعة حسب ذلك الإجماع
الوهمي. إذا أن الإجماع لم يوجد في أي عصر
من العصور، بل كان هناك دائماً جماعة غير
راضية سواء أكانت تلك الجماعة أقلية أم
أكثرية. هذا فضلا عن أن السلطة الحاكمة
تستعمل القوة في قسر بقية أفراد المجتمع على
قبول الحالة الراهنة. فنصيب الإرادة إذن في
نشوء المجتمع قليل. فضلا عن أنه يستحيل
التوفيق بين ذلك الرأي ونشوء المجتمع من
الوجهة التاريخية. نعم قد يكون للإرادة الآن
مظهرها في النظم السياسية وعلى الخصوص في
الجماعات الديمقراطية حيث يكون الشعب
-إما مباشرة أو بالوساطة- هو الحاكم
المسيطر فلا يتم شيء في المجتمع بدون رأيه
وإرادته ورضاه، غير إنه لدى البحث قليلا
نرى أيضاً ضعف هذه النظرية وعدم انطباقها
كل الانطباق على جهود المجتمع فأعمال الجماعات
وإن تكن الإرادة مصاحبة لكثير من جهودها
إلا إنه يوجد كثير من الأعمال والتطورات تتم
برغم أنف الجماعة، ودون شعور منها. فالحقيقة
إذا هي أن الإرادة إحدى القوى التي يتم بها
التطور الاجتماعي وليست أقواها. إذ يوجد
بجانبها قوى نفسية أخرى كالغرائز والمشاعر
الخفية تسير المجتمع دون أن يكون للعنصر
الفكري فيها نصيب. وقد حدا ظهور الإرادة
في كثير من الأعمال الاجتماعية بالكثيرين
إلى القول بأن المجتمع الحديث هو مجتمع واع
أو مريد "Conscious Society" وهو
رأي ناقص كما ترى غير متفق مع الواقع.
إن من أشد العوامل في التطور الاجتماعي
هو شعور أفراد المجتمع بضرورة التغير، أو
ضرورة إحداث تطور جديد في الجهود
الاجتماعية. وإذا نحن درسنا النظم الاجتماعية
في تطورها التاريخي نجد بعضاً منها قد لازم
المجتمع منذ أول نشوئه ونجد أيضاً أنظمة أخرى
قد جدت واستحدثت بعد نشوء المجتمع وأصبحت
جزءاً أساسياً لا يمكن أن يتصور بدونه. فمن
ذا الذي يتصور مجتمعاً عصرياً مثلا دون أن
تكون الصحافة والنقابات بأنواعها عناصر
أساسية لهذا المجتمع. وأي مجتمع يمكن تصوره
بدون دور الصناعة والمال والتجارة؟
غير أن هذه النظم وغيرها مما قد ينشأ بعد
نشأت وتنشأ مع الدولة وبدون إرادة الدولة،
بل كثيراً ما كانت الدولة ضد تأسيس بعض
النظم ونشوئها وتطورها مما يبرهن لنا على أن
نشوء النظم الاجتماعية لا يتم ولا يسير حسب
إرادة الدولة، بل إنه ينشأ تبع حاجة إجتماعية
مخصوصة لتأدية وظيفة إجتماعية مخصوصة.
ومن هنا نشأت النظرية الحديثة عن نشوء النظم
الاجتماعية، وأنها كلها نشأت حسب الحاجة
ولتأدية وظيفة معينة. وهذا بصرف النظر عن
نوع هذه الحاجة و سواء أكانت اقتصادية
محضة أو حربية أو بيولوجية أو نفسية كما سنبينه
بعد. فالباحث الاجتماعي إذا يجب ألا يبدأ
بحثه عن تكوين المجتمع بأي نظام اجتماعي،
مخصوص متتبعاً إياه في تطوراته التاريخية فقط
سواء أكان هذا النظام هو الدولة أو النظام
الديني أو المهنة أو المدرسة أو غيره بل عليه أن
يبدأ دراسته من التجمع نفسه ومن الصور
والأشكال التي يتشكل بها هذا التجمع.
أما التجمع هذا فيجب دراسته في الفرد
أولا. وارتباط الفرد بالمجتمع أكثر مما يتصوره
أي مفكر، والاستقلال الشخصي المزعوم
لأفراد الجماعات المتمدينة يكاد يكون معدوما.
فلا يوجد فرد لا يتبعه ظل الجماعة في أشد
لحظات انفراده، و اختلائه بنفسه. والمجتمع
يحد من حرية الأفراد في جميع وجوه نشاطهم.
فالعائلة تحد من حرياته. والصناعة والدين
والمهنة والتربية وكل عناصر المجتمع ونظمه تحد
من حرياته، وتصبغه بصبغة اجتماعية محضة تميت
فيه الروح الفردية. فهو مرتبط في أعمق أغوار
نفسه بكل نظم المجتمع، وله نصيب وافر في
عمل المجتمع. لأنه جزء منه لا يتجزأ. وفي أي
جهة يولي وجهه يجد المجتمع و شبحه أمامه ماثلا
متناولا كل جهود الأفراد وموحدا إياه في عمل
واحد والتجمع. فوحدة العمل إذن هي الصيغة
التي يشعر بها الفرد بقوة المجتمع وسلطته. والأفراد
يشتركون معاً رغم أنفهم لتأسيس كل النظم
الاجتماعية وتدعيمها وتسييرها وتسهيل وظيفتها
وعملها. ووحدة العمل هذه ظاهرة في كل نظام
اجتماعي. ومن هذه الظاهرة الاجتماعية تتألف
جهود المجتمع، ومهمة المسيطرين على شؤون
الجماعة في كل عصر هي تكييف الظروف
الاجتماعية حتى تعمل النظم الاجتماعية معا،
فيشعر كل فرد من أفراد الجماعة إنه يعمل مع
غيره لا لغاية سوى توحيد الجهود ووحدة
المجتمع وتضامن أفراده لغاية إجتماعية واحدة.
حسين تقي أصفهاني

Notes and Questions

Nobody has written a note for this page yet

Please sign in to write a note for this page