Pages
page_0011
(البلاغ الأسبوعي في يوم الجمعة ١٤ يناير ١٩٢٧) ١١
بين مغاور الحدود رحلة إلى الحدود المصرية (الغربية)
(صورة) محافظة الصحراء الغربية بمرسى مطروح ذات موقع جميل تجاه البحر الأبيض المتوسط
(صورة) الباخرة نافتيس المصرية التابعة لمصلحة الفنارات المصرية راسية في ميناء مرسى مطروح
-الاستعدادقرب الساعة الخامسة من مساء أحد أيام السبت المنصرمة حملت حقيبتي. واكتريت عربة إلى ميناء الإسكندرية بالترسانة. ومن هناك ركبت زورقاً أوصلني إلى الباخرة (سلوم) المصرية التابعة لمصلحة الفنارات.
-تأمل وعند الساعة السادسة تماماً صفرت الباخرة إيذاناً بالرحيل. فاعتراني شبة جمود. وظللت أنظر إلى مصر بعين الخيال أودعها وفي نفسي اهتياج والتياع. ولكني تغلبت على عواطفي وقلت لنفسي: "ألست ذاهباً إلى بلاد مصرية كما عشت في بلاد مصرية". ولكن كأن هاتفا في قال: "قد يكون ذلك، ولكن الوطن الحقيقي هو الذي ولدت وربيت فيه أما ما يليه من البلدان فليس من الوطن في شيء إلا على مذهب من يقول أن البلدان كلها وطن واحد للإنسانية عامة.
-في عرض البحروخرجت إلى سطح الباخرة بعد أن وضعت حقيبتي في القمرة المخصصة لي فسارت بنا الباخرة إلى ان غربت الإسكندرية عن أعين المسافرين ... حينذاك ابتدأ رأسي يدور وشعرت بأنه جسمي قد فقد توازنه. فأسرعت إلى قمرتي وخلعت ملابسي وارتديت (بجامتي) وفوقها المعطف وحاولت أن اجلس. ولكني عجزت عن مقاومة ما اعتراني. وإذا بأحد ضباط الباخرة الذي تربطني وإياه صلة معرفة قد أتى يستفسر عن حالي. فلما رآني علي على هذه الحال نصحني أن أمكس على ظهر الباخرة ليقل الدوار ولأستنشق الهواء النقي وفيما أنا اصعد على سلم الباخرة أخذ عدد غير قليل من المسافرين يهبطه. وكان الكل ضاحكين على أنفسهم وعلى عجزها عن مقاومة دوار البحر. جلست على مقعد طويل من القماش وأسندت راسي عليه. ووضعت يدي على عيني لأوهم نفسي إنني لست في عرض البحر. وفيما أنا أغالب نفسي ونفسي تغالبني. إذا بيد تهزني فنظرت. وإذا بي أرى أحد الاخوان الموظفين بمصلحة الحدود فحييته. ودعاني لأجلس معه في أحد أركان ظهر الباخرة مع أحد أصدقائه وزوجته. وبعد التعارف جلست أجاذبهم أطراف الحديث. وكان حديثنا (يقرف) إذ كانت تقاطعه نغمات (التقايؤ) على مذهب (حجاز كار) هذا امامه وجردل. وذاك فمه مصوب (كمضخة الحريق) إلى البحر....
page_0012
١٢ (البلاغ الأسبوعي في يوم الجمعة ١٤ يناير ١٩٢٧)
(صورة) قسم مرسى مطروح وبناؤه واقع لأمام المحافظة
(صورة) سجن مطروح وأمامه بعض عساكر البوليس العرب وبعض المساجين أحدهم وقور بلحيته
وأخيراً لم يتحمل الزوج أكثر فاستأذن منا وانصرف. وبعد نصف ساعة لحقناه وإذا هو رابض على سريره وبين يديه إناء يتقيأ فيه. أخذنا في الضحك ولكن (بسخسخة) واقترح صديقي ان يتناول كل منا كاس كنياك فرضينا بحكم الظروف وجرع كل منا كأسه جاع الزوج فالتهم تفاحتين وعنقود عنب وفيما هو يتناول الثاني صاح بزوجته "في عرضك ..." ثم أخذ يتقيأ فجاريناه نحن من باب المجاملة!! مناورة غرق! وفجأة وقفت آلات الباخرة وساد سكون رهيب. فقمنا على الفور مضطربي الحواس نقدم رجلا ونؤخر أخرى لنستطلع الخبر. وأنا اودع صديقي والمعارف الجدد وهم يودعونني والزوجة تترقرق في مآقيها العبرات. وزوجها يضمها إليه ويشجعها وهو يرتجف واسنانه تصطك. فكان منظره مغريا بالضحك. وعيناه زائغتان في منتصف وجهه ... ولكن من لنا بالضحك والبكاء أولى بنا... وسمعنا وسط هذا السكون أصوات البحارة تتعالى. ولكنا لم نفهم منهم شيئاً فشجعتهم على الصعود لنتمكن من ركوب زورق النجاة أو ليكون عندنا الوقت الكافي لربط (كعكة الفل) حول أوساطنا وفعلا تماسكنا عند فكرة النجاة فأسرعنا في الصعود واذا بالباخرة تميل حتى لتكاد تنقلب يمنة ويسرة. وإذا بالزوج يركع ويصلي للعذراء أن تنجيه وتاخذ بيده
النجاة وطرنا الى زورق نجاة كان مرفوعا الى ظهر الباخرة واحتللناه. جرى كل ذلك ونحن مشدوهون تحت تأثير فكرة الغرق ومر بنا أحد النوتية فساءلنا. لم نحن هكذا معلقين بين السماء والماء. فأجبتاه خوفاً من الغرق وطمعاً في النجاة فسألنا بدهشة. أي غرق لا سمح الله؟ فقال له الزوج بلهفة "مش احنا بنغرق" فاستلقى النوتي على قفاه من الضحك وأجاب "لا سيدي" فقال الزوج "أمال العدة وقفت ليه والمركب بتطوح زي اللي حيبلعها البحر" فأجاب "لان القبطان أراد أن يعمل مناورة وتمرين للبحارة حتى يكونوا على تمام الاستعداد وقت الطوارئ. أما تطوح المركب فهذا من علو البحر وهياجه"
اليابسة وانبلج الصبح وكنا لما سمعنا أن البر ظهر قد أسرعنا الى ظهر الباخرة. فرأينا على بعد عدة كيلومترات جبلا طويلا ممتداً على حذاء الشاطئ فانتعشت نفوسنا واطمأنت قلوبنا....
مرسى مطروح وبعد برهة بانت عدة منازل على الطراز الأوروبي في واد فسيح يعلوه من الجهة الجنوبية تل يرتفع نحو اثنين وعشرين مترا. كان منظر البلد جميلا وجذابا للغاية فسرحنا فيه الطرف ملياً وظللنا مأخوذين والباخرة تتهادى داخل الميناء لتصل الى ... مكان مرساها
page_0013
(البلاغ الأسبوعي في يوم الجمعة ١٤ يناير ١٩٢٧) ١٣
(صورة) مدرسة مرسى مطروح وطلبتها وطالباتها يؤدون التحية لنا والتعليم وصرف الأدوات مجاناً
(صورة) منظر جزء من قشلاق مطروح وبه بعض مساكن الموظفين ورجال البوليس
سألنا أي بلد تلك؟ فقيل لنا مطروح!! ... اذن فهي التي نقصد... وفي الساعة السابعة تماماً ألقيت المراسي وظل البحارة في هرج ومرج يعدون سلم النزول إلى الأرض الثابتة..
مبانيها وتجارتها الداخلية وفي عصاري اليوم نفسه وبعد أن استراحت من عناء البحر خرجت مع زكي أفندي تادرس باشكاتب قسم مطروح لنتفرج على البلد وكم كان إعجابي بها شديداً حينما كنت أمر فيه شوارعها النظيفة الواسعة المنظمة فلا اجد إلا منازل جميلة لكل منها حديقة مسورة او حوش فسيح وإنك لا تمر في طريق إلا وترى دكانا وقهوة وبضعة دكاكين مرتبة جميلة فيها كل ما يطلب من بقول وعطارة ومنيفاتورة وخلافها في مرسى مطروح ما يزيد عن الثلاثين دكانا تجاريا وتسع قهوات وخمسة أفران مع أن عدد منازل أهليها قد لا يزيد عن مائة منزل اما تجار البلد فأغلبهم أجانب يونانيون وأهم أصناف تجارة البلد الداخلية الشعير اذ يورد منها لداخل القطر بكميات كبيرة وهناك فصل يبتدئ من أواسط سبتمبر وينتهي في أواسط أكتوبر يصح أن نسميه فصل "السمان" اذ هذا الطائر يوجد بكثرة تجعل سوق اللحوم الأخرى بائرة. ويورد منه لداخل القطر مئات الألوف... واما كل ما يحتاج إليه الإنسان من ضروريات وبعض الكماليات فهو يرد من داخل القطر. ونسبة الغلاء كبيرة وليس في مقدور الفقير أن يتحملها بسهولة. وهناك أمر خاص بالموظفين تراعيه الحكومة اليقظة فقد رأيناها هنا في مسائل عدة تسعى جهد طاقتها في جلب الراحة لهم وتسهيل سبل معيشتهم من ذلك أنها ابتنت محلا تجاريا وعرضته لأي تاجر شاء أن يستعمله مجانا على شرط أن يبيع للموظفين ويقضي طلباتهم بناء على التسعيرة التي تقريرها مصلحة الحدود بإسكندرية كلها تغيرت أسعار السوق وبزيادة خمسة في المائة فقط وليس في مطروح سوى دكان واحد لبيع الخضروات. وهو لا يمتلئ إلا من طوافة لطوافة أعني كل خمسة عشر يوما مرة وأحيانا كل أسبوع أي حين وصول الطوافة من الإسكندرية. وقد اشترطت معه محافظة الحدود الغربية نفس الشروط السابقة إلا أنها لم تبن له دكانا. ولا يمكن أن يتصرف بائع الخضروات فيما يرد إليه الا بعد أن يأخذ الموظفين كفايتهم وذلك لا يستغرق إلا اليوم الأول والثاني على الأكثر....
نادي الأسرة وعندما جنحت الشمس إلى المغيب. ومالت عن أرض مصر تودعها إلى لقاء قريب. قال لي صديقي تعال بنا إلى النادي فسألته مدهوشا وأي ناد؟ فقال نادي الموظفين. وما أن انتهى من كلمته حتى قابلنا عربي يلبس (الجرد) وهو عبارة عن عباءة بيضاء من الصوف
page_0014
This page is not transcribed, please help transcribe this page
page_0015
This page is not transcribed, please help transcribe this page