page_0003
Facsimile
Transcription
(البلاغ الأسبوعي في يوم الجمعة ٧ يناير ١٩٢٧) ٣
في البادية
أو زيارة للحدود الغربية
بقلم
عبد الرحمن أفندي عزام
العضو بمجلس النواب صورة (عبد الرحمن عزام)
زار النائبان المحترم عبد الرحمن أفندي عزام ومحمد صالح أفندي حرب حدود مصر الغربية في الصيف الماضي
فرأيا رأي العين المواقع التي تناولها الاتفاق بين مصر وإيطاليا ودراسا العربان التابعين لمصر في هذه الجهات.
فطلبنا من صديقنا عبد الرحمن عزام أن يكتب لقراء " البلاغ الأسبوعي" كلمة يطلعهم بها على نتيجة
هذه الزيارة الدرس فأجاب طلبنا وأرسل إلينا هذه الكلمة
قضيت ظروف الحرب العامة أن يجد كثير من
الناس أنفسهم في نواح من الأرض لم تخطر لهم
ببال فكم من أهل أوروبا من وجد نفسه بين
حادثة وآثرها في مجاهل سيبيريا وصحراء منغوليا
ولم يشأ القدر الذي نثر الناس ذات اليمين وذات
الشمال أن يطوح بي إلى أبعد من حدود ليبيا
بين الاسكندرية الزهراء وتونس الخضراء.
في سبع سنين كاملة قضيت هذه الإرادة أن
الأمس البيداء في خصبها وجدبها، في نعيمها
وبؤسها، في وعرها وسهلها، وأن أرد حلوها ومرها
واشهد أخضرها ويابسها، أقضي الشهور على
ظهور العيس والخيل تارة يهدينا القمر وأخرى
يسامرنا النجم وغيرها يكسونا الظلام ونحن
نتقلب في أيامها بين هجير القيلولة وزمهرير اعقاب
الليل في قاحل السهول ووعر الثنايا.
انقضت تلك وما كنت أظن أن أثرها
سيبقى وأن ذكرى حلوها وذكرى مرها
شهيتان على السواء. تأسست اذن صداقة
تاريخية بيني وبين البادية وأهلها هي التي دفعتني
في خريف هذا العام لتكرار الزيارة للقسم
الغربي من بادية مصرنا المحبوبة.
وإنني لأشعر بحاجة مواطني الى مثل هذه
الصداقة وتلك الزيارة فنحن مهما تنكرت
الأيام لانزال نحمل للبادية حباً موروثاً يجري
كميناً مع الذرة الي منشأ آبائنا الاولين. ففي البيداء
لن يكون أحدنا أجنبياً الا بقدر الوقت اللازم
لنزع لفائف المدنية والتجرد من تكاليف
الحضارة. عندئذ سنجد أنفسنا ولن نجد غريباً.
فطرة الله التي فطر للناس عليها لا تبديل لخلق
الله. سنلقى الحقيقة حاسرة في الوسط الذي لم
تمسسه يد بخير ولا بشر
في البيداء لن نجد العيش الذي نعرفه والأدب
الذي نصطنعه ولا مظهرا مما شببنا عبيداً له ولن
يكون "بلاغ" ولا "كوكب" ولا "سياسة"
وإنما بلاغة الصمت تحت كواكب الفلك تحدوها
سياسة المبدع الأول.
هنالك يصل العلم إلينا وحيا ونلهم الحقيقة
الهاما. وسندرك إذن ما تحملنا المدنية من اوزار
وتكاليف. سنفرق بين ما هو طبيعي وضروري
وبين ما كان فضلة ولهوا. وعندئذ تفيض علينا بركات
الشجاعة ويكسونا وقار الاباء وسنرى في الفقر
والموت حادثاً طبيعياً لا تصطك له الفرائض فإن
بطولة الزهد تحل في نفوسنا محل نذالة الجشع
وذلة الترف.
سنرى الدنيا كما كانت حاسرة جردت من
اثواب الرياء وازواق النفاق وأحمال التكمل
والتصنع. سنلامس الحقيقة المجردة.
تلك إذن رياضة فكرية نحن في أشد الحاجة
إليها ولا أرى أحدا في حاجة التذكير بما
في البادية من رياضة جسمانية،
ذهبنا إلى الصحراء أنا وصديقي القائمقام
محمد صالح بك عضو مجلس النواب وكنا نتمنى
أن تتاح لنا هذه الرياضة غير ان الزمان قصر
بنا وصوت السياسة يستحثنا فكنا نفكر دائماً
في الجناح الهضيم فإن وادي النيل يبدو لكل
ناظر إلى خريطته طيراً قلبه الدلتا وجناحاه
بادية سينا وبادية أولاد علي. وهذا الشكل
الجغرافي ينطبق على حقيقة عسكرية وسياسية
ولو أن طيراً ينهض لنهضت مصر بغير جناحها
الغربي.
لقد كان قلبنا ينبض وجلا منذ شرع زيور
باشا وزملاؤه يتناولون باستخفاف مسألة حدودنا
الغربية فإن الأيام التي فجأت مصر باختلال
أقعدها عن الشعور بالمسئولية الملقاة على القومية
المصرية لم تلبث أن اخرجت على جناحنا
الغربي دولة فتية قد يكون مستقبل البحر المتوسط
بين أيديها.
تنبهت القومية المصرية لمكانها تحت الشمس
فأخذت تفكر فيما يصون استقلالها فوثب رجال
الى الحكم لا يعتقدون أن مصر المستقلة في
حكم الأمور الممكنة فتنازلوا مسألة جناحنا
الغربي كطفل عبث بعصفور فكسره. ولم يفكروا
في أن اقتصاص جغبوب قد يقعد مصر الناهضة
ثم ليتهم صارحوا البلاد بعبثهم. بل أرادوا
أن يخدعوها فاخرجوا بئر الرملة تفيض في
الشمال ما غارت به عيون الجغبوب في الجنوب
واخذوا هذا بديلا عن ذلك ولقد بينت فيما نشرت
عن الجغبوب في السنتين الماضيتين وما جاد به
الكتاب الكثيرون عظم موقع جغبوب
الاستراتيجيكي، والآن اكتفى في هذه العجالة ببيان
زيارتنا لبئر الرملة وأترك للقارئ أن يقدر بنفسه
-------------------------------------
(الباقية على صفحة ١١)
Notes and Questions
Nobody has written a note for this page yet
Please sign in to write a note for this page