page_0003
Facsimile
Transcription
(البلاغ الأسبوعي في يوم الجمعة ١٤ يناير ١٩٢٧) ٣
أنور باشا
وهل هو حي يرزق
الظاهر أن المتنبي كاذباً إلى سيف
الدولة غير مرة بدليل قوله:
كم قد قتلت وكم قد مت عندكم
ثم انتفضت فزال القبر والكفن
والظاهر أن الذين نعوه ماتوا قبله بدليل قوله:
قد كان شاهد دفني قبل قولهم
جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا
أو أنه قال هذا القول تشفياً منهم وهم أحياء
وليس المتنبي "ضعيف النكاية أعداءه" كما
يقول شاعر قبله:
وكنا وايم الحق نود أن يكون ما أصاب
المتنبي من حساده واعدائه في "الكار" هو
ما أصابه أنور رافع لواء الثورة العثمانية ومصوح
عرش عبد الحميد لكن أنور بعكس المتنبي مات
مرة وشبع موتاً "على رأي المثل" إن كان
الموت مما يشبع منه وشاع مراراً انه حي في حين
أن المتنبي أميت مراراً قبل موتته. ثم لا يعقل أن
رجلا مثل انور عرف بكثرة وثباته وشدة عزماته
تحتويه بخارى وآسيا الوسطى كلها ولا يفيض
على جوانبها كما يفيض النيل في أبان فيضانه أو كما
يطغى البحر الخضم على سواحله في ارتفاع مده.
لكن الناس لا يصدقون ان أنور مات وهم
معذورون ألا يصدقوا. فقد أبان كبلر الفلكي
الألماني ان ميلاد كثير من الرجال العظام
كموسى ويوليوس قيصر وشارلمان ولوثر وغيرهم
سبقته حوادث فلكية عظيمة تنبئ به وأن
ظهور النجم قبل ميلاد السيد المسيح ليهدي المجوس
إلى مكان ولادته كان من هذا القبيل. وقد
علل كبلر ذلك الحادث الفلكي باقتران المشتري
المريخ. وحسب الأستاذ ايدلر الألماني سنة ١٨٢٦
فوجد أن هذين السيارين اقترنا سنة ٧ قبل
الميلاد ولكن الأستاذ بروكتور الفلكي الأمريكي
ذهب إلى ان النجم المشار إليه إنما كان ذا ذنب
يظهر ويختفي في مدد معينة كمذنب هلي المشهور
الذي ظهر سنة ١٩٠٩ لآخر مرة.
فإن كانت الطبيعة الجامدة تتأثر لميلاد الرجال
العظام ولوفاتهم بمثل ما تقدم فأحر بالناس أهل
الحس والعواطف أن يتأثروا مثلها أو أكثر
منها وأن يكون اقل ذلك التأثر فيهم عدم
تصديق نعيهم.
جاء في التوراة أن اخنوخ أحد الرجال
الصالحين في عهد سيدنا نوح اخذ ولم يعرف احد
مكانه "لأن الله أخذه" وأن إيليا النبي أحد
أنبياء بني إسرائيل صعد إلى السماء بمركبة نارية
وأن موسى الكليم مات بعيداً عن قومه ودفن
ولم يعرف احد قبره "لأن الله دفنه". ولا
نشك البتة في ان معاصري أولئك الأنبياء تناقلوا
الى عهد بعيد الروايات المختلفة عن عدم موتهم
وعن بقائهم احياء غير مصدقين ما نقل إليهم عن
اخذ الله لهم او أصعادهم إلى السماء أو تولي دفنهم
وجاء في الإنجيل أن السيد المسيح ظهر
لتلاميذه وغيرهم من أتباعه بعد قيامته وان كثيرين
منهم شكوا في شخصيته وانه صعد إلى السماء
أمام بعضهم. ولا ريب ان الذين لم يشاهدوه
بعد قيامه ولم يشهدوا صعوده شكوا فيهما كليهما
وتوارثوا هذا الشك خلفاً عن سلف
ولما توفي النبي تقول للناس الاقاويل الكثيرة
في موته وحامت عليهم الشكوك في رسالته حتى
قام أبو بكر فقال قولته المشهورة وهي إن كنتم
تعبدون محمداً فإن محمداً قد مات وأن كنتم تعبدون
الله فإن الله حي لا يموت فعاد إليهم إيمانهم
واسلامهم بعد إذ أوشكا أن يفارقاهم
وفي التاريخ المعروف ملكا من ملوك ألمانيا
اسمه فردريك بربروسا كان بين ملوك المسيحية
الذين قصدوا إلى الأراضي المقدسة للاشتراك
في احدى الحروب الصليبية فغرق وهو يعبر نهر
زل ارمق من انهار الأناضول وطار نعيه الى
ألمانيا فلم يصدقه أحد ولا يزال فيها إلى الآن
كثير من العامة ينكرونه ويقولون ببقائه
حياً يجوس خلال ألمانيا ولا يهتدي إليها أحد!!
وحديث وليام تل البطل السويسري مشهور
فإن قومه أكبروا موته لبلائه الحسن في حروب
سويسرا الاستقلالية فضنوا به ان يموت ولا
تزال هناك خرافة متداولة فحواها انه باق الى
الان حيا وانه يسكن غابات سويسرا الكثيرة
وانه قد يظهر لبعض أهلها من آن إلى آن
كذلك شاع غير مرة ان كتشنر لا يزال
حيا. وشاع أن القيصر وولي عهده وسائر
أسرته لا يزالون أحياء. وبالأمس نشر البلاغ
الاسبوعي اشاعة وجود ولى العهد في بعض
أنحاء أوربا ونشر صورته معها
***
ومن هذا القبيل قصيدة نظمها شاعر
إنجليزي كبير يرثي بها وحيداً فقده ولم يعزه
شيء عن فقده وقد ترجمها شاعر عربي كبير
شعراً وساعده على احسان الترجمة كونه أصيب
بما أصيب به الشاعر الإنجليزي من الثكل
المر. ولا ازال اذكر بعض ابياتها الرقيقة التي
تناسب موضوعنا قال في مطلعها:
هل مات لست على اليقين بقادر
إذ لا أزال أراه وسط الناظر
لكن إذا حجبته عني ادمعي
ظل الخيال مصوراً في الخاطر
ومنها:
أمضي الى الأسواق صباً والهاً
فاراه يلقاني بوجه زاهر
فاجسه بيدي واعلم انه
ولدى يقينا ليس صورة ساحر
هل ذاك هو أو ذاك يشبه فيا
لله لست على اليقين بقادر
وكلها على ما ترى من رقة التفجع والحسرة
مما يمليه القلب على الخيال ويبثه الشعور في
الجوانح ومما سمى به الشاعر شاعراً (ش)
Notes and Questions
Nobody has written a note for this page yet
Please sign in to write a note for this page